شيخ المحققين عبد السلام هارون ( ۱۳۲٦ هـ - ۱۹٠۹ م = ۱٤٠۸ هـ - ۱۹۸۸ م )
قال أحمد تمام :
لم يخطّ أحد في التراث العربي سطرًا إلا وللعالم الجليل عبد السلام هارون منّة عليه، ويندر أن يتعامل أحد مع المصادر العربية دون أن يستعين بمصدر من تحقيقات الشيخ الجليل؛ فقد قدم للمكتبة العربية عيون التراث مجلّوة في صورة بهية وحلّة قشيبة، وزينها بتعليقات وفهارس دقيقة.
المولد والنشأة
ولد عبد السلام هارون في مدينة الإسكندرية في (۲٥ من ذي الحجة ۱۳۲٦هـ= ۱۸ من يناير ۱۹٠۹م) ونشأ في بيت كريم من بيوت العلم، فجده لأبيه هو الشيخ هارون بن عبد الرازق عضو جماعة كبار العلماء، وأبوه هو الشيخ محمد بن هارون كان يتولى عند وفاته منصب رئيس التفتيش الشرعي في وزارة الحقانية (العدل)، وعمه هو الشيخ أحمد بن هارون الذي يرجع إليه الفضل في إصلاح المحاكم الشرعية ووضع لوائحها، أما جده لأمه فهو الشيخ محمود بن رضوان الجزيري عضو المحكمة العليا.
وقد عني أبوه بتربيته وتعليمه، فحفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، والتحق بالأزهر سنة (۱۳٤٠هـ=۱۹۲۱م) حيث درس العلوم الدينية والعربية، ثم التحق في سنة (۱۳٤۳هـ= ۱۹۲٤م) بتجهيزية دار العلوم بعد اجتيازه مسابقة للالتحاق بها، وكانت هذه التجهيزية تعد الطلبة للالتحاق بمدرسة دار العلوم، وحصل منها على شهادة البكالوريا سنة (۱۳٤۷هـ= ۱۹۲۸م) ثم أتم دراسته بدار العلوم العليا، وتخرج فيها سنة (۱۳٥۱هـ= ۱۹٤٥م).
الوظائف العلمية
وبعد تخرجه عمل مدرسًا بالتعليم الابتدائي، ثم عُيّن في سنة (۱۳٦٥هـ=۱۹٤٥م) مدرسًا بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وهذه هي المرة الوحيدة في تاريخ الجامعات التي ينتقل فيها مدرس من التعليم الابتدائي إلى السلك الجامعي، بعد أن ذاعت شهرته في تحقيق التراث، ثم عُيّن في سنة (۱۳۷٠هـ=۱۹٥٠م) أستاذًا مساعدًا بكلية دار العلوم، ثم أصبح أستاذًا ورئيسًا لقسم النحو بها سنة (۱۳۷۹هـ= ۱۹٥۹م) ثم دعي مع نخبة من الأساتذة المصريين في سنة (۱۳۸٦هـ=۱۹٦٦م) لإنشاء جامعة الكويت، وتولى هو رئاسة قسم اللغة العربية وقسم الدراسات العليا حتى سنة (۱۳۹٤هـ= ۱۹۷٥م)، وفي أثناء ذلك اختير عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (۱۳۸۹هـ= ۱۹٦۹م).
النشاط العلمي
بدأ عبد السلام هارون نشاطه العلمي منذ وقت مبكر، فحقق وهو في السادسة عشرة من عمره كتاب "متن أبي شجاع" بضبطه وتصحيحه ومراجعته في سنة (۱۳٤٤هـ=۱۹۲٥م)، ثم حقق الجزء الأول من كتاب "خزانة الأدب" للبغدادي سنة (۱۳٤٦هـ= ۱۹۲۷م)، ثم أكمل أربعة أجزاء من الخزانة وهو طالب بدار العلوم.
كانت هذه البدايات تشير إلى الاتجاه الذي سيسلكه هذا الطالب النابه، وتظهر تعلقه بنشر التراث، وصبره وجلده على تحمل مشاق المراجعة والتحقيق، وبعد تخرجه في دار العلوم اتجه إلى النشر المنظم، فلا تكاد تخلو سنة من كتاب جديد يحققه أو دراسة ينشرها.
ولنبوغه في هذا الفن اختاره الدكتور طه حسين (۱۳٦۳هـ=۱۹٤۳م) ليكون عضوًا بلجنة إحياء تراث أبي العلاء المعري مع الأساتذة: مصطفى السقا، وعبد الرحيم محمود، وإبراهيم الإبياري، وحامد عبد المجيد، وقد أخرجت هذه اللجنة في أول عهدها مجلدًا ضخمًا بعنوان: "تعريف القدماء بأبي العلاء"، أعقبته بخمسة مجلدات من شروح ديوان "سقط الزند".
وتدور آثاره العلمية في التحقيق حول العناية بنشر كتب الجاحظ، وإخراج المعاجم اللغوية، والكتب النحوية، وكتب الأدب، والمختارات الشعرية.
أما كتب الجاحظ -أمير البيان العربي- فقد عني بها عبد السلام هارون عناية فائقة، فأخرج كتاب "الحيوان" في ثمانية مجلدات، ونال عن تحقيقه جائزة مجمع اللغة العربية سنة (۱۳۷٠هـ=۱۹٥٠م)، وكتاب البيان والتبيين في أربعة أجزاء، وكتاب "البرصان والعرجان والعميان والحولان" و"رسائل الجاحظ" في أربعة أجزاء، وكتاب "العثمانية".
وأخرج من المعاجم اللغوية: معجم "مقاييس اللغة" لابن فارس في ستة أجزاء، واشترك مع أحمد عبد الغفور العطّار في تحقيق "صحاح العربية" للجوهري في ستة مجلدات، و"تهذيب الصحاح" للزنجاني في ثلاثة مجلدات، وحقق جزأين من معجم "تهذيب اللغة" للأزهري، وأسند إليه مجمع اللغة العربية الإشراف على طبع "المعجم الوسيط".
وحقق من كتب النحو واللغة كتاب سيبويه في خمسة أجزاء، وخزانة الأدب للبغدادي في ثلاثة عشر مجلدًا، ومجالس ثعلب في جزأين، وأمالي الزجاجي، ومجالس العلماء للزجاجي أيضًا، والاشتقاق لابن دريد.
وحقق من كتب الأدب والمختارات الشعرية: الأجمعيات، والمفضليات بالاشتراك مع العلامة أحمد شاكر، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي مع الأستاذ أحمد أمين، وشرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري، والمجلد الخامس عشر من كتاب الأغاني لأبي فرج الأصبهاني.
وحقق من كتب التاريخ: جمهرة أنساب العرب لابن حزم، ووقعة صفين لنصر بن مزاحم، وكان من نتيجة معاناته وتجاربه في التعامل مع النصوص المخطوطة ونشرها أن نشر كتابًا في فن التحقيق بعنوان: "تحقيق النصوص ونشرها" سنة (۱۳۷٤هـ= ۱۹٥٤م)، فكان أول كتاب عربي في هذا الفن يوضح مناهجه ويعالج مشكلاته، ثم تتابعت بعد ذلك الكتب التي تعالج هذا الموضوع، مثل كتاب: مقدمة في المنهج للدكتورة بنت الشاطئ، ومنهج تحقيق النصوص ونشرها لنوري حمودي القيسي وسامي مكي العاني، وتحقيق التراث العربي لعبد المجيد دياب.
أما عن مؤلفاته فله: الأساليب الإنشائية في النحو العربي، والميسر والأزلام، والتراث العربي، وحول ديوان البحتري، وتحقيقات وتنبيهات في معجم لسان العرب، وقواعد الإملاء، وكناشة النوادر، ومعجم شواهد العربية، ومعجم مقيدات ابن خلكان.
وعمد إلى بعض الكتب الأصول فهذّبها ويسرها، من ذلك: تهذيب سيرة ابن هشام، وتهذيب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، والألف المختارة من صحيح البخاري، كما صنع فهارس لمعجم تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري في مجلد ضخم.
وخلاصة القول أن ما أخرجه للناس من آثار سواء أكانت من تحقيقه أو من تأليفه تجاوزت ۱۱٥ كتابًا، وقد توج عبد السلام هارون حياته بأن نال جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي سنة (۱٤٠۲هـ= ۱۹۸۱م)، وانتخبه مجلس مجمع اللغة العربية أمينا عامًا له في (۳ من ربيع الآخر ۱٤٠٤هـ= ۷ من يناير ۱۹۸٤م)، واختاره مجمع اللغة العربية الأردني عضو شرف به.
وظل الشيخ يعمل في خدمة التراث في صبر وجلد ينجز بهما الأعمال العلمية المضنية على اختلاف مناحيها وكثرة تشعبها، تمده ثقافة عربية واسعة، وبصر بالتراث، ونفس وثابة، وروح إسلامية عارمة تستهدف إذاعة النصوص الدالة على عظمة التراث العربي، وتكشف عن نواحي الجلال فيه.
وإلى جانب بهذا النشاط في عالم التحقيق كان الأستاذ عبد السلام هارون أستاذًا جامعيًا متمكنًا، تعرفه الجامعات العربية أستاذًا محاضرًا ومشرفًا ومناقشا لكثير من الرسائل العلمية التي تزيد عن ۸٠ رسالة للماجستير والدكتوراه.
وفاته
توفي عبد السلام هارون في (۲۸ من شعبان ۱٤٠۸هـ= ۱٦ من إبريل ۱۹۸۸م) بعد حياة علمية حافلة، وخدمة للتراث جليلة، وبعد وفاته أصدرت جامعة الكويت كتابًا عنه بعنوان: "الأستاذ عبد السلام هارون معلمًا ومؤلفًا ومحققًا".
من مصادر الدراسة:
محمد مهدي علام: المجمعيون في خمسين عامًا ـ مطبوعات مجمع اللغة العربية ـ القاهرة (۱٤٠٦هـ= ۱۹۸٦م).
محمود محمد الطناحي: مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي ـ مكتبة الخانجي ـ القاهرة ـ (۱٤٠٥هـ = ۱۹۸٤م).
محمد خير رمضان يوسف: تتمة الإعلام للزركلي- دار ابن حزم ـ (۱٤۱۸هـ= ۱۹۹۸م).
محمد محيي الدين عبد الحميد: كلمة في استقبال عبد السلام هارون ـ مجلة مجمع اللغة العربية ـ العدد (۲٥) ـ القاهرة ـ (۱۳۸۹هـ= ۱۹٦۹م).
السيد الجميلي: الجيل الثاني أو الطبقة الثانية من المحققين الأعلام ـ مجلة الأزهر ـ الجزء العاشر ـ السنة الثامنة والستون ـ (۱٤۱٦هـ= ۱۹۹٦م).
نقلا عن : موقع إسلام أون لاين