محتوى الكتاب

إغلاق

أحدها : أنه لو لم يكن موجبا للقتل لما جاز قتل المرأة و إن كانت حربية لأن الحربية إذا لم تقاتل بيد و لا لسان لم يجز قتلها إلا بجناية موجة للقتل و هذا ما أحسب فيه مخالفا لا سيما عند من يرى قتالها بمنزلة قتال الصائل

الثاني : أن هذه السابة كانت من المعاهدين ممن هو أحسن حالا من غير المعاهدين في ذلك الوقت فلو لم يكن السب موجبا لدمها لما قتلت و لما جاز قتلها و لهذا خاف الذي قتلها أن تتولد فتنة حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم [ لا ينتطح فيها عنزان ] مع أن انتطاحهما إنما هو كالتشام فبين صلى الله عليه و سلم أنه لا يتحرك لذلك قليل من الفتن و لا كثير رحمة من الله بالمؤمنين و نصرا لرسوله و دينه فلو لم يكن هناك ما يحذر معه قتل هذه لولا الهجاء لما خيف هذا

الثالث : أن الحديث مصرح بأنها إنما قتلت لأجل ما ذكرته من الهجاء و أن سائر قومها تركوا إذ لم يهجوا و أنهم لو هجوا لفعل بهم كما فعل بها فظهر بذلك أن الهجاء موجب بنفسه للقتل سواء كان الهاجي حربيا أو مسلما أو معاهدا حتى يجوز أن يقتل لأجله من لا يقتله بدونه و إن كان الحربي المقاتل يجوز قتله من وجه آخر و ذلك في المسلم ظاهر و أما في المعاهد فلأن الهجاء إذا أباح دم المرأة فهو كقتال أو أسوأ حالا من القتال

الرابع : أن المسلمين كانوا ممنوعين قبل الهجرة و في أوائل الهجرة من الابتداء بالقتال و كان قتل الكفار حينئذ محرما و هو من قتل النفس بغير حق كما قال تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } إلى قوله { فلما كتب عليهم القتال } [ البقرة : 246 ] و لهذا أول ما أنزل من القرآن فيه نزل بالإباحة لقوله : { أذن للذين يقاتلون } و هذا من العلم العام بين أهل المعرفة بسيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يخفى على أحد منهم أنه صلى الل عليه و سلم كان قبل الهجرة و بعيدها ممنوعا عن الابتداء بالقتل و القتال و لهذا قال للأنصار الذين بايعوه ليلة العقبة لما استأذنوه في أن يميلوا على أهل منى [ إنه لم يؤذن لي في القتال ] و ذلك حينئذ بمنزلة الأنبياء الذين لم يؤمروا بالقتال كنوح و هود و صالح و إبراهيم و عيسى بل كأكثر الأنبياء غير أنبياء بني إسرائيل

ثم إنه لم يقاتل أحدا من أهل المدينة و لم يأمر بقتل أحد من رؤوسهم الذين كانوا يجمعونهم على الكفر و لا من غيرهم و الآيات التي نزلت إذ ذاك إنما تأمر بقتال الذين أخرجوهم و قاتلوهم و نحو ذلك و ظاهر هذا أنه لم يؤذن لهم إذ ذاك في ابتداء قتل الكافرين من أهل المدينة فإن دوام إمساكه عنهم يدل على استحبابه أو وجوبه و هو في الوجوب أظهر لما ذكرنا لأن الإمساك كان واجبا و المغير لحاله لم يشمل أهل المدينة فيبقى على الوجوب المتقدم مع فعله صلى الله عليه و سلم

قال موسى بن عقبة عن الزهري : كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم في عدوه قبل أن تنزل براءة يقاتل من قاتله و من كف يده و عاهده كف عنه قال الله تعالى : { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم و ألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } [ النساء : 90 ]

و كان القرآن ينسخ بعضه بعضا فإذا نزلت آية نسخت التي قبلها و عمل بالتي أنزلت و بلغت الأولى منتهى العمل بها و كان ما قد عمل بها قبل ذلك طاعة لله حتى نزلت براءة و إذ أمر بقتل هذه المرأة التي هجت و لم يؤذن له في قتل قبيلتها الكافرين على أن السب موجب للقتل و إن كان هناك ما يمنع القتال لولا السب كالعهد و الأنوثة و منع قتل الكافر الممسك أو عدم إباحته

و هذا وجه حسن دقيق فإن الأصل أن دم الآدمي معصوم لا يقتل إلا بالحق و ليس القتل للكفر من الأمر الذي اتفقت عليه الشرائع و لا أوقات الشريعة الواحدة كالقتل قودا فإنه مما لا تختلف فيه الشرائع و لا العقول و كان دم الكافرين في أول الإسلام معصوما بالعصمة الأصلية و بمنع الله المؤمنين من قتله و دماء هؤلاء القوم كدم القبطي الذي قتله موسى و كدم الكافر الذي لم تبلغه الدعوة في زماننا أو أحسن حالا من ذلك و قد عد موسى ذلك ذنبا في الدنيا و الآخرة مع أن قتله كان خطأ شبه عمد أو خطأ محضا و لم يكن عمدا محضا

فظاهر سيرة نبينا و ظاهر ما أذن له فيه أن حال أهل المدينة إذ ذاك ممن لم يسلم كانت كهذه الحال فإذا قتل المرأة التي هجت من هؤلاء و ليسوا عنده محاربين بحيث يجوز قتالهم مطلقا كان قتل امرأة التي تهجوه من أهل الذمة بهذه المثابة و أولى لأن هذه قد عاهدناها على أن لا تسب و على أن تكون صاغرة و تلك لم نعاهدها على شيء