محتوى الكتاب

إغلاق

    بداية الوحي وسبيل الداعية إلى الله (2)

    25/7/1975

    العلامة محمود مشّوح

    بسم الله الرحمن الرحيم

    أما أيها الأخوة المؤمنون

    فلقد كنا قد وقفنا في الأسبوع الماضي عند شهادة خديجة رضي الله عنها لمحاسن خصال النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وتبينا من خلال التتبع لكثير من الوقائع أن هذه الصفات العالية هونت على رسول الله صلى الله عليه وسلم متاعب الطريق ووعدنا أن نأتي بالحديث على بقية الملاحظات التي أردنا إبرازها في الحديث الشريف.

    وأولى الملاحظات التي تحدثنا عنها كانت قول خديجة رضي الله عنها للنبي عليه الصلاة والسلام في معرض التثبيت والتطمين.

    "كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" .

    وثانية الملاحظات التي لم يَنْفَسح لنا مجال القول فيها والتي نأمل أن نأتي عليها اليوم بعون الله وتوفيقه تلك الدهشة التي أبداها رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سمع كلام ورقة بن نوفل، فمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أخبر خديجة رضي الله عنها بخبر ما رأى وما سمع، من بدايات الوحي، أخذه الروع، فذهبت به إلى ورقة، وورقة هذا كان رجلاً قد تنصّر في الجاهلية وأخذ علماً من علم أهل الكتاب ويبدو، والله أعلم، أن خديجة رضوان الله عليها التمست عند ورقة قطع اليقين فيما أحسته في نفسها من أن هذا الإنسان الذي هو زوجها كان له شأن عظيم، وبعد أن بشّر ورقةُ رسولَ الله صلوات الله عليه تمنى أمنية قال:

    "يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك" .

    فدهش النبي صلى الله عليه وسلم وقال:

    أوَ مخرجيَّ هم؟ قال: "نعم. لم يأت أحد قومه بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً" .

    ربما يكون الوقوف عند مظهر الدهشة هذا أمراً غريباً على كثير من الإخوة، وسنحاول بإذن الله ونحن في معرض التقصي لخصائص النبي الخاتم محمد عليه السلام أن نستكشف أسباب هذه الدهشة وآثارها.. آثارها في النفس وآثارها في الآخرين، وما ينبغي أن يكون عليه الدعاة إلى الله من احتذاء لهذا المثل الرائع المتمثل في رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحليلات طويلة، أحب أن أضرب لكم مثلاً يقرّب الأمر إلى الأذهان.. تصوّر أنك أمام عشرة أشخاص ثم تتكلم أمامهم بكلام فاحش ولاحظ تعابير الوجوه من هؤلاء.. من يتلوّن وجهه وتتأذى نفسه وتصدم أحاسيسه ويرى أن هذا القول لا يليق ليس هذا وحسب وإنما هو لا يتصور أن يخرج هذا الكلام الفاحش البذيء من إنسان يحترم معنى الإنسانية في نفسه، لاحظ الآخرين تجد بعضاً منهم لا يهتزون من كلمةٍ عوراء، ولا من قولٍ فاحش، فالأمر عندهم طبيعي للغاية. علامَ يدل هذا؟ يدل هذا على اختلاف طبائع الناس وعلى تباين فطر الناس وعلى تباين استعدادات الناس، ما كل إنسان يرى أن الحق أمر معقول بل هو واجب، وأن الأخذ به لا محيد عنه، وأن الإعراض عنه سَفَهٌ في النفس وخسّة في العقل، ما كل إنسان يتصور هذا التصور، هذا الشيء يحتاج إلى ناس على مستوىً عالٍ من الطهارة والكمال. أصحاب الطهارة ومن سلمت فطرهم واستقامت طبائعهم، يرون أن الأمر الطبيعي هو أن يكون الشيء المعقول هو السائد، وأن اللامعقول شذوذ ينبغي أن لا يحدث، وإن حدث فينبغي أن يطارد في المجتمع حتى يُجلى عن المكان الذي هو فيه.

    حينما أخبر ورقةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأن قومه سوف يخرجونه وسوف يؤذونه، استغرب أومخرجيَّ هم؟ لو كان غير محمد صلى الله عليه وسلم لكان استغرابه بغير معنى؛ لاشك أن الإنسان الذي ينادي الناس إلى غير ما عرفوا، وإلى غير ما ألفوا، سوف يطارد، وسوف يعادى، وسوف يخرج، وسوف تبذل الجهود من أجل إثباته أو قتله، لكن محمداً صلوات الله عليه سمة أخرى، الإنسان المستقيم بيننا في عرفنا يعرف هذا الشيء يعرف أن حامل الحق لابد أن يلقى البلاء ولكن أحاسيسه وتصوراته لا تعدو هذا التصور أما محمد عليه الصلاة والسلام فكان من مستوى آخر.