إن من الضرورات الملحة في عصرنا هذا الذي هو عصر التكتلات والتحالفات، أن تجتمع كلمة المسلمين، وأن يتكتل أهل الإسلام، وأن يتحالف المسلمون للحفاظ على دينهم وعقيدتهم وقيمهم، بل وأموالهم ومكتسباتهم، ولكن الملاحظ مع خطورة المرحلة التي يمر بها العالم الإسلامي، ومع وجود كيد أعدائه، ومع قناعة الجميع بضرورة الوحدة واجتماع الكلمة ونبذ الفرقة، إلا أنها في طور الأماني والأحلام، وأحياناً حبيسة التنظير والأوراق والسطور، ولا ننكر أنه توجد عقبات، ولكن هذا لا يمنع أن نأخذ الموضوع مأخذ الجد والقيام بمبادرات فاعلة وقوية.
و لذلك لما عهد إليّ الأخوة الكرام الكتابة في موضوع العمل الإسلامي بين الافتراق والاتفاق فأجبتهم للكتابة عبر الائتلاف.
المحور الأول: فقه الائتلاف لماذا؟
(1) كثيراً ما تطرح قضية الاتفاق والوحدة الإسلامية، كل ذلك في الإطار النظري المتفق عليه، لكن الخطوة الأهم أن ننفذ للحديث عن أسباب الائتلاف والسبيل إليه.
(2) كما أن فقه الائتلاف هو الفقه الغائب، الذي يؤسس للوحدة الإسلامية عبر الإلفة والوئام، ويجعل هذا أصلاً مرعياً يُتحرى ويحرص عليه "حيث إن الإسلام يدعو إلي الإلفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل ما أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين" (1) ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "من القواعد العظيمة التي هي جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين. وأهل هذا الأصل هم أهل السنة والجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفُرقة" (2) . وكذلك نصوص القرآن والسنة كثيرة في هذا الباب، فهي تحث عليه، كقوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم...) (3).
وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )) (4) ، وقوله: (( المؤمن للمؤمن كالبنيان )) (5) ، و قوله: (( المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن، أخو المؤمن يكف عليه ضيعته، ويحطه من ورائه )) (6) .
كما أن هذا الموضوع فيه رعاية لأصول أهل السنة والجماعة، الذين يحرصون ــ علماً وعملاً ــ على الائتلاف، ويهتمون بأمر المسلمين من أهل القبلة وذلك واضح في الآتي:
(1) القيام بالنصيحة لهم، والحرص على هدايتهم، والشفقة عليهم.
(2) محاربة البدع، ونشر السنة؛ رحمة بأهل القبلة.
(3) الصلاة خلف المبتدع الذي لم يخرج ببدعته عن الإسلام، والتفريق بين تركها هجراً لهم وبين صحة الصلاة خلفهم، ومراعاة المصالح والمفاسد فيها(8)، "وكذلك التفريق في هجر المبتدع بين الداعي إلى بدعته والساكت عنها" (9) .
(4) التعاون مع أهل البدع الذين لم يخرجوا ببدعهم عن الإسلام في المجالات التي لا خلاف فيها في دائرة الحق، "فإن كل طائفة معها حق وباطل؛ فالواجب موافقتهم فيما قالوا من الحق، ورد ما قالوه من الباطل، ومن فتح الله له هذا الطريق فقد فتح له من العلم والدين كل باب ويسر عليه من الأسباب" (10) ، والتعاون "مع أهل البدعة على أن لا يؤدي إلى حصول مفسدة أعظم، أما إذا حصلت مصلحة أعظم من مفسدة بدعته أو لورود مفسدة أكبر حصل التعاون" (11) ، كما ينبغي ألا يتخذ المبتدع هذا التعاون ذريعة لنشر بدعته، ومن ذلك الجهاد مع الإمام المبتدع "كما كان الإمام أحمد بن حنبل يرى الجهاد مع المأمون والمعتصم" (12) .
كل هذا الذي ذكرنا أمثلة على رعاية أهل السنة بمنهج وسط لقضية الائتلاف وفقهه.
المحور الثاني: مدخل عبر فقه الخلاف
(1) من أكبر إشكالات الساحة ليس وقوع الخلاف فيها، ولكن تملُّك الخلاف واستغراقه للمسلم؛ مما ينسيه المعاني الجامعة، والكليات العامة، والقواعد الأصيلة، والقضايا المشتركة؛ ومن هنا تضطرب الموازين، وتختل المعايير، وتختلط المواقف، وهذا خلل في فهم الإسلام، وخلل في تربية المسلم تؤدي إلى التظالم والتباغض والبراء من المخالف، وإن كان أحب إلى الله من الموافق، واتباع الظن "مثلما يقع بين أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة، والتفرق والاختلاف والطعن والتشهير بدل الاجتماع والائتلاف والموالاة في الله، مما يؤدي إلى شك كثير من الناس وطعنهم في كثير مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من روايات وآراء" (13) .
(2) حتمية الخلاف لا تعني الاستسلام له والاسترسال معه، ولأن الشرع يحض على الائتلاف ويحرص عليه، ثم إذا وقع الخلاف في مسائل الاجتهاد أمر بالأدب عند الخلاف؛ صيانة لأصل الوحدة والائتلاف، "فإن السلف تنازعوا في مسائل علمية اعتقادية مع بقاء الجماعة والإلفة" (14) .
(3) تحديد مساحات الخلاف بدقة: فكثيراً ما يقع الخلاف دون أن يحصل تحديد لمسائله، ولو حُدِّدت المسائل تحديداً علمياً للمصطلحات لربما حصل اتفاق، لذلك لا بد من تحديد مساحات الخلاف بدقة هل هو:
(أ) اختلاف تنوع كالاختلاف في التفسير والقراءات وما يحتمله النص.